المادة    
الناس مع الطائفة المنصورة على قسمين:
الأول: أعداء؛ فهؤلاء يقاتلون.
الثاني: مُقِرَّون وموافقون للطائفة المنصورة، لكنهم يخذلونهم ولا يعاونونهم، فهاتان ليستا من الطائفة المنصورة.
الطائفة المنصورة: تدعو، وتأمر، وتنهى، وتجاهد، فمن خذلهم فليس منهم، ومن قاتلهم فهذا عدوهم مستحيل أن يكون منهم.
وقد قرأنا العقبات السبع من كلام ابن القيم رحمه الله، العقبة السابعة: عقبة المراغمة -أي: الجهاد- لا بد منه، فعندما ذكر العقبات وأن كثيراً من الناس يتركها ويتجاوزها، ومنها: عقبة الشرك، فالحمد لله كثير من المسلمين لا يشرك بالله.
كذلك: عقبة الكبائر، يوجد لله عباد لا يرتكبون الكبائر، لكن العقبة التي لا يستطيع أحد أن يتداركها أو يتجاوزها: عقبة المراغمة، لا بد أن يسلط الله تبارك وتعالى عليه من يعاديه ومن يؤذيه.
ولهذا يذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه الفوائد قصة سلمان الفارسي ، عندما قال له أبوه: (إما أن تعود إلى ديننا وإلا فالقيد)، فقال: (هذا الجواب هو جواب الأمم لأنبيائهم من قديم، قال: وهو الجواب الذي خوطب به الإمام أحمد عندما رفض القول بخلق القرآن، وهو الجواب الذي قيل لـابن تيمية شيخنا شيخ الإسلام رحمه الله. ثم يقول: وهو الجواب الذي قيل لنا).
هذا لابد منه، هذا هو الجواب الأخير، إما أن يعود في ملتهم وإما أن يناله من الأذى ما يستطيعون؛ رجماً، أو طرداً، أو إخراجاً، أو أذى، وربما وصل الحال إلى ما فعله أصحاب الأخدود، وهذا شيء عجيب، وحالة نادرة أن يصل الأمر إلى أن يحرق المؤمنون، يجمعون جميعاً فيحرقون بالنار وينتهي الأمر، ويرجع الملك إلى ملكه، وتبقى الأمور مستمرة، سبحان الله! ولكن حكمة الله سبحانه وتعالى لا بد من هذا، كما قال: (( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54].
ولاحظوا سبحان الله! قوله تعالى: (( وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54] فيه معانٍ حكيمة وعجيبة، وكل القرآن فيه ذلك لمن تدبره وتأمله، لكن قال: (( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ))[المائدة:54] كلها صفات معروفة لا بد منها، وهي ضرورية للإنسان المستخلف الذي يريد أن يمكنه الله تبارك وتعالى، وأن ينصر بها دينه.
  1. عدم الخوف من لوم اللائمين

    لكن قوله: (( وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54] كثير من الناس لا يمنعه من قول الحق، أو السير في طريق الدعوة والاستمرار فيه إلا لوم اللائمين، واللائم إن كان قريباً أو صديقاً أو محباً قال: يا فلان أنا أحبك وأعزك وأشفق عليك، ولا أريدك أن تؤذى، ولا أريدك أن تهان، ولا أريدك أن تذل، بل أريدك أن تقعد محترماً، وقد يكون هذا اللائم يحبه حقيقة، ولكن هذا من لوم اللائمين.
    وآخر قد يقول له: تريد الجهاد؟ أخاف عليك أن تموت فمن يبقى لنا؟ أين نذهب من بعدك؟ .. وهكذا.
    واللوم هو حرب أخرى، وهذه الحرب تسمى في مصطلحات الناس اليوم: الحرب النفسية، وحرب الأعصاب، من المهم جداً أن يتجنب اللوم؛ لأنك قد تندفع إلى الكافر وتقاتله وتجاهده تريد الجنة، كذلك تدعو إلى الله ولو أوذيت ولو عذبت تحتسب الأجر، لكن المشكلة هي أن يأتيك اللوم، فيؤثر عليك، وليس شرطاً أن يكون اللوم من العدو؛ بل إنك لا تبالي بلوم العدو، إنما إذا جاءك اللوم من المحب والموافق، وفي صورة الناصح المشفق الحنون الدءوب على مصلحتك، فلو أطعت هذا اللائم لتركت أمر الله تبارك وتعالى، وتركت الجهاد في سبيل الله، ونزلت عن الدرجة التي يريدها الله لك؛ فالله تبارك وتعالى يصطفي هؤلاء الأقوام بدرجة عالية عظيمة المقام، كمقام الأنبياء، بحيث يقفون ويقومون مقام الأنبياء، ويرثون ميراث النبوة، ويدعون إلى الله، هذه الدرجة عظيمة، فهذا اللائم القريب المحب لا يريد أن يخرجك من الدين، ولا يريدك أن تترك الحق والخير، لكن ينزلك عن هذا المقام إلى مقام بعيد، بالنسبة لهذا فإن من المؤمنين، ومن الأخيار، ومن الصالحين من هم على خير، ويكونون من أصحاب اليمين ويدخلون الجنة بإذن الله، لكن ليس هذا هو الغرض الذي تريده، ولا هو الشرط أو الصفة التي يريدها الله عز وجل فيمن يريد أن يمكنه وأن يستخلفه وأن ينصر به دينه ويظهره.
  2. وجه كون المسلم لا يخاف في الله لومة لائم

    لا بد أن يكون المسلم ممن لا يخاف في الله لومة لائم، لا يخاف أبداً ما دامت أعماله حقاً، وبميزان الكتاب والسنة.
    فالصحابة رضوان الله تعالى عليهم كانوا دائماً يتحرون الحق، حتى في الأمور المندوبة، وفي السنن المستحبة، ويعلل أحدهم ذلك: بأني لا أخاف في الله لومة لائم.
    أقول: هذه الجملة من الآية من المهم جداً لطلبة العلم أن يتدبروها، يقول ابن رجب رحمه الله: (فإن من تمام المحبة مجاهدة أعداء المحبوب، وأيضاً فالجهاد في سبيل الله دعوة للمعرضين عن الله إلى الرجوع إليه بالسيف والسنان، بعد دعائهم إليه بالحجة والبرهان.
    فـ المحب لله يحب اجتلاب الخلق كلهم إلى الله، كما قال بعضهم: وددت لو أن لحمي قرض بالمقاريض، وأن أحداً لم يعص الله عز وجل، من غيرته على دين الله، وغيرته أن تنتهك حرمات الله، ومن تعظيمه لله ومحبته له، فهو لا يريد من أحد أن يغضب الله أو يتعدى حدوده، فيؤثر أن يقرض بالمقاريض ولا يعصى الله عز وجل، فهذا يعظم الله تبارك وتعالى ويحبه.
    فالمحب لله يحب أن يكون الخلق كلهم عبيداً لله طائعين له، ولا يرضى أن أحداً منهم يعصى الله أويتجاوز حدوده.
    ثم قال: (فمن لم يجد الدعوة إليه باللين والرفق احتاج إلى الدعوة بالشدة والعنف، عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل، ولا يخافون لومة لائم، ما للمحب غير ما يرضي حبيبه رضي من رضي عليه وسخط من سخط).
    ابن رجب كانت عادته كعادة ابن القيم يتكلم بروحانية وبشفافية، فيأتي بأساليب وعبارات أدبية، ثم يستشهد بالشعر، كما تقرءون لهما رضي الله تعالى عنهما، فهو لا يكتفي بكلام الفقيه أو المؤصل، بل ينتقل إلى واحة الشعر والأدب، ويبدأ يعبر بهذه التعبيرات الأدبية الجميلة، فيقول: (ما للمحب غير ما يرضي حبيبه رضي من رضي عليه، وسخط من سخط، فمن خاف الملامة في هوى من يحبه فليس بصادق في المحبة:
    وقف الهوى بي حيث أنت فليس لي            متأخر عنكم ولا متقدم
    أجد الملامة في هواك لذيذة            حباً لذكرك فليلمني اللوم)
    وهذه الأبيات يقول فيها بعض الناس: إنها أبلغ أبيات قالتها العرب في الحب، وهذه الأمور ذوقية، فقد ترى أنت أن غير هذا أبلغ.
    وقال آخر:
    وأهنتني فأهنت نفسي جاهداً            أين المهان لديك ممن يكرم
    أي: من أجلك أهنت نفسي.
    فقوله:
    (أجد الملامة في هواك لذيذة            حباً لذكرك فليلمني اللوم)
    أي: أفرح حين يلومونني؛ لأنهم يلومونني في حبك، فهم يذكرونني بك، كما يقول:
    لقد نقل الواشون عنك            فقد سرني أني خطرت ببالك
    وهذه قالها أحد شعراء الهوى، يقول: كلما يقولون عنك: إنك لا تحبينني أفرح به؛ لأن المهم عندي أني خطرت ببالك، فانظر إلى هذا الحب العظيم العميق، ويخطر ببال من؟ ومن أجل من؟ وما النتيجة؟ سبحان الله!
    فكيف يكون شعور المؤمن إذا ذكر الله؛ فإنه يستشعر أن الله يذكره، كما يقول الله عز وجل في الحديث القدسي: ( أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ) الله أكبر! جبار السماوات والأرض سبحانه الغني الحميد، القائل: (( إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ))[إبراهيم:8]، والقائل: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ))[فاطر:15] ومع ذلك يقول: ( إن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ) فهو سبحانه بدون واسطة يعلم أنك ذكرته، ثم قال: (وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ) مهما تخيلت من ملأ في الدنيا، فالملأ الأعلى المقربون عند الله تبارك وتعالى هم خير هؤلاء، ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي بن كعب : ( إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك: (( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا... ))[البينة:1]، قال: وسماني؟ قال: نعم، فبكى أبي ) هكذا يكون المحب المحبة الحقيقية، أما أهل الهوى فيقولها في حق المحبوب.
  3. انحراف الصوفية في مفهوم قوله تعالى: (ولا يخافون لومة لائم)

    الصوفية يكثرون من الأشعار ومن الدعاوى في المحبة لله -زعموا- والحقيقة أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وأولياء الله الصالحين حققوا هذه المحبة على الحقيقة، حقوقها في قلوبهم وأحوالهم، أما الصوفية فدعوى فقط، بغض النظر عن الزندقة والكذب، وعن دعوى المحبة التي ليست إيمانية، ولو نظرنا إلى من يتكلم بهذه المحبة والود والهيام والشوق، لوجدناها كلها دعاوى، إنما هي مجرد أشعار يقرءونها وينشدونها ويتمايلون ويبكون عند سماعها، أما حقيقة هذه الأشعار والأذواق والوجدانيات.. إلى آخره، هذه عاشها الصحابة رضوان الله تبارك وتعالى عليهم حقيقة، والتابعون وأولياء الله العباد الصالحون عاشوها حقيقة وإن لم يتمثلوا بها شعراً.
    فـالصوفية مثل الذي يتكلم ويتغزل بمحبوبته، والآخر مثل الذي حصل على ما يحب، وبذل، وأعطى، وأنفق، وأكرم حبيبه، وضحى من أجله بالفعل، الفرق بين هذا المتمني من بعيد، وبين الذي يحب ويدفع ويبذل ويضحي، وإن لم يقل بيتاً من الشعر في هذا المحبوب.
    إذاً: فهذه الأبيات إنما تليق بالله سبحانه وتعالى، على تعديل في بعض العبارات أحياناً، فمثلاً قول أحدهم:
    وقف الهوى بي حيث أنت             فليس لي متأخر عنكم ولا متقدم
    أي: يجب أن تقف رغبتك ومحبتك وميولك حيثما كان أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فلا تكن متقدماً عنه ولا متأخراً، هذا الذي يليق بك أن تكون عند مرضاة الله عز وجل، لا تتقدم ولا تتأخر، لا تغلو فتزيد من عندك في الدين ما ليس منه ولا تقصر؛ لأن السنة كما قال الحسن رحمه الله: [السنة وسط بين الجافي عنها والغالي فيها، فلا تتقدم ولا تتأخر عما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم].
    وكذلك قوله:
    أجد الملامة في هواك لذيذة            حباً لذكرك فليلمني اللوم
    نقول: يجب على الإنسان المؤمن أن يجد الملامة في محبة الله، وفي طاعة الله لذيذة.
    وقوله:
    حباً لذكرك فليلمني اللوم
    أي: فليلم اللوم، وليقولوا ما شاءوا؛ لأن غاية ما يقولونه هو نفس ما ذكره، كما شعراء الغزل:
    وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا            سوى أن يقولوا إنني لك عاشق
    أي: دعهم يسبونني، وليقولوا: إنني عاشق، فهذا شيء أفتخر به، وهذا المعنى أولى أن يحققه المؤمن؛ لأنه ماذا عسى أن يقول الناس فيك؟ إلا أنك محب لله، تجاهد في سبيل الله، وتدعو إلى الله! فليكن ذلك، وهل هناك شرف أفضل أو أعظم من هذا؟ فهذا هو التعرض للوم الحقيقي.
    وتعلمون أن طائفة من الصوفية سمت نفسها الملامتية ، وألف فيهم أبو عبد الرحمن السلمي الصوفي المعروف كتاباً مطبوعاً -وإن كان قليل التداول- سماه الملامتية .
    وهؤلاء الملامتية سموا بذلك؛ لأنهم يقولون: افعل أي شيء تلام عليه، واحرص أو اجتهد في فعل شيء من العبادة لكي يلومك الناس من أجلها، وكما يقول بعضهم: اذكر الله حتى يقال: إنك مجنون، اتركهم يلومون ويقولون: مجنون، وقد وصل الحال ببعضهم إلى ما يشبه المجانين فعلاً، حتى إن بعضهم -نسأل الله العفو والعافية- غلا في ذلك، فأصبح يرتكب بعض المحرمات وهو يعلم أنها محرمة؛ حتى يلومه الناس، وحتى يسقط من أعينهم.
    فهذا ضلال في فهم اجتناب الرياء، واجتناب الاغترار وتعظيم الناس، فانظروا كيف تكون الأدواء النفسية صعبة جداً، والواحد لا يستطيع أن يعرفها، حتى قيل: إن أولياء الله وعباد الله من الصوفية إنما هربوا وفروا عن القضاء، وعن العلم، وعن مجالس الفتيا، وعن التبحر في المسائل، وعن التقرب إلى السلاطين، وعن هذه الأمور إنما فعلوا ذلك حتى يجتنبوا الناس، ويجتنبوا الدنيا، ويجتنبوا الاغترار والعجب؛ فلبسوا الثياب المرقعة، وأخذوا يأكلون مما يعطيهم الناس من أبسط العيش، وعاشوا بعيدين عن الناس، فسلموا من هذا.
    ولكن تدرج الحال، فأصبح الناس لا يعظمون القاضي لكونه قاضياً، أو الفقيه لكونه فقيهاً، إنما يعظمون من يسمونه أولياء لله، فإذا وجدوا إنساناً في زاوية من زوايا المسجد يذكر الله، ويسبح، ويقرأ القرآن، وثيابه رثة عظموه وأكرموه وأجلوه، وقالوا: ادع الله لنا، وتمسحوا به، وتبركوا به، وأينما ذهب يتبعونه، فقالوا: ما دام الأمر كذلك، فالحل أننا نخالف مراد الناس، فنفعل أفعالاً يحتقرها الناس، ويتركوننا من أجلها، حتى إن بعضهم كان يمشي في السوق، فما وجد وسيلة ليصرف الناس عنه -لأنهم كانوا يمشون وراءه ويعظمونه- إلا أن سرق جوزاً من السوق، وأخذ يأكلها، فكرهه الناس، وقالوا: هذا ليس ولي، فتركوه وتفرقوا عنه.
    فيقول أصحاب الملامتية ، أصحاب المنهج الضال، الذين يعالجون الضلال بالضلال والخطأ بالخطأ: يجب على الإنسان أن يتعرض لما يلام عليه، وأن يعمل أعمالاً يلام عليها، فيسلم من العجب والرياء والغرور.. وما إلى ذلك.
  4. المفهوم الصحيح لقوله تعالى: (ولا يخافون لومة لائم)

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله -وهو من أعطاه الله من الفقه والحكمة-: (عجباً لهؤلاء، أطع الله تجد من يلومك) أي: لا تحتاج أن تعصي الله حتى يلومك الناس، أطع الله، واتق الله، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر؛ تجتمع الدنيا كلها عليك لوماً.
    ولم يُلَمْ أحد والله أعلم من بعد الإمام أحمد مثل شيخ الإسلام ابن تيمية ، ما من أذى وتعذيب وسجن وتشهير وتكفير وتضليل وتبديع إلا وتعرض له؛ لأنه استقام على الحق.
    فيقول: (ليس هذا حقاً، بل استقم على دين الله، ومن غير أن تطلب اللوم فسوف تلام، وعندها يجب عليك أن تصبر، أما أن تخالف شرع الله من أجل أن تلام، فتحتسب هذا اللوم، أو تخالف حتى يدفع عنك الغرور والعجب! فهذا مخالف لمنهج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فإنهم استقاموا على دين الله، ولامهم الخلق وعذبوه وأوذوا واضطهدوا، حتى أقرب الناس إليهم لامهم، فهذا أبو طالب يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد! إن قومك فعلوا كذا، وعرضوا كذا، وقالوا كذا..، فلم يأبه بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
    إذاً: أنت استقم على الدين، وافعل الخير، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، وسيأتيك اللوم، وحينئذ لا تأخذك في الله لومة لائم؛ لأن هذه الصفة، هي كما قال الله تبارك وتعالى: (( يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ))[المائدة:54]، وبعد أن ذكر هذه الصفات، قال: (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:54] أي: هذه الصفات لا يمن الله تبارك وتعالى بها إلا على من يصطفيهم ويختارهم.
    إذاً: حري وجدير بكل مسلم أن ينافس وأن يسابق؛ ليكون منهم.
    ومن لا يريد أن يقدم هذه التضحيات فلن ينال هذه الدرجة، وهذا الاصطفاء، وهذا الكرم، وهذا الفضل، لأن هذا فضل الله يختص برحمته من يشاء: (( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ))[الأنبياء:23].
    فعليك أن تجتهد لتكون ممن يختارهم الله ويصطفيهم لهذا؛ ولذلك يقول ابن رجب رحمه الله: (وقوله تعالى: (( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ ))[المائدة:54] يعني: درجة الذين يحبهم ويحبونه بأوصافهم المذكورة، (( وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ))[المائدة:54] واسع العطاء، عليم بمن يستحق الفضل فيمنحه، ومن لا يستحقه فيمنعه.
    ويروى أن داود عليه السلام كان يقول: ( اللهم اجعلني من أحبابك، فإنك إذا أحببت عبداً غفرت ذنبه وإن كان عظيماً، وقبلت عمله وإن كان يسيراً )، وكان داود يقول في دعائه: ( اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك، اللهم اجعل حبك أحب إلي من نفسي وأهلي ومالي ومن الماء البارد ).
    وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أتاني ربي -يعني في المنام- فقال لي: يا محمد! قل: اللهم إني أسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك ) وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: ( اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحب فاجعله قوة لي فيما تحب، اللهم ما زويت عني مما أحب فاجعله فراغاً لي فيما تحب ) وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو: ( اللهم اجعل حبك أحب الأشياء إلي، وخشيتك أخوف الأشياء عندي، واقطع عني حاجة الدنيا بالشوق إلى لقائك، فإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم، فأقرر عيني بعبادتك )، فأهل هذه الدرجة من المقربين ليس لهم همّ إلا فيما يقربهم ممن يحبهم ويحبونه).
    كما تلاحظون ابن رجب رحمه الله جعل القضية كلها تابعة لصفة المحبة، فهؤلاء القوم همهم في الدنيا هو الحصول على مرضاة الله، ومحبة الله تبارك وتعالى.
    ثم قال: (قال بعض السلف: العمل على المخافة قد يغيره الرجاء، والعمل على المحبة لا يدخله الفتور)، وقد تقدم الكلام في هذا عند الكلام على الحب والخوف والرجاء، ولكن أجمع ما يقال فيها: إن الخوف والرجاء كالجناحين، والمحبة هي الرأس، فليكن عمل الإنسان كالطائر، الرأس هو الموجه وهو الأساس، والخوف والرجاء جناحان لا يميل أحدهما عن الآخر، ولو طار الطائر بجناح واحد لسقط.
    فإذاً: العمل على الخوف قد يغير الرجاء ويضعفه، وإضعاف الرجاء لا ينبغي؛ لأنه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه، ويرجو رحمة الله ).
    قال: (والعمل على المحبة لا يدخله الفتور). وهذا حق، فأي شيء تعمله وأنت تحبه لا يدخله الفتور، ولو كنت في آخر الليل وتريد أن تنام؛ لأنك مرهق، فجاءك إنسان بعمل تحبه وتشتاق إليه؛ فإنك تقوم وتنشط وتنسى النوم وتشتغل وتسهر.
    وإذا كنت مريضاً فزارك إنسان تحبه، فإنك تقوم وتنسى المرض.. وهكذا، فـ العمل على المحبة لا يلحقه الفتور، ولا يلحقه الممل ولا السأم، ولهذا كان العمل عملاً خالصاً لله تبارك وتعالى؛ لأن العبد يعمله بمحبة، وشوق، ويعمله بهذه الرغبة؛ فيكون ذلك من العمل الصالح الخالص الصالح عند الله تبارك وتعالى.
    وقال أيضاً: (ومن كلام بعضهم: إذا سئم البطالون من بطالتهم، فلا يسأم محبوك من مناجاتك وذكرك.
    قال فرقد السبخي : قرأت في بعض الكتب: من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من هواه، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده شيء آثر من هوى نفسه)، وينبغي أن نقول: من أحب الله لم يكن عنده شيء آثر من محبته، حتى لا يظن أن الهوى ينسب إلى الله، ومن أحب الدنيا لم يكن عنده آثر من هوى نفسه.
    ثم قال: (فالمحب لله تعالى أمير مؤمر على الأمراء).
    يعني: الله تعالى يجعله كذلك.
    ثم قال: (زمرته أول الزمر يوم القيامة، ومجلسه أقرب المجالس فيما هنالك، والمحبة منتهى القربة والاجتهاد، ولن يسأم المحبون من طول اجتهادهم لله تعالى، يحبونه ويحبون ذكره، ويحببونه إلى خلقه) لاحظ كيف يحبهم ويحبونه؟!
  5. حتمية مصاحبة المشقة واللوم للحب

    فالعملية واحدة، والتضحية واحدة، والتعلق والتعب والمشقة لا بد منها، ولذلك لا تجد أحداً حتى من أكثر الناس تطفلاً على الحب -كما يسمونه- وعلى الغزل إلا ويكتب: الحب عذاب على سيارته، وعلى أوراقه، وعلى كتاباته، فما دام عذاباً فلا تتعذب من أجل أي شيء، بل ينبغي إذا أحببت شيئاً وتعبت من أجله فليكن ممن يستحق ذلك الحب، ولا شيء يستحق أن يُحب على الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى، وما والاه عز وجل، فلهذا يقول العلماء الربانيون، ومن يعرفون الله عز وجل: إن مثل هذه الأبيات التي تقال في حق المحبوبين لغير الله لا يليق أن تقال لغير الله عز وجل.
    فمثلاً: أبو فراس له أبيات عظيمة جداً في الحب، يقول:
    فليت الذي بيني وبينك عامر            وبيني وبين العالمين خراب
    إذا صح منك الود فالكل هين            وكل الذي فوق التراب تراب
    فهذا كلام عظيم جداً، لكن أبا فراس كتب هذا الشعر في ابن عمه سيف الدولة وكان يحبه؛ لكن لما اختلفا على الملك تقاتلا، وكم تقاتل من إخوة وآباء وأبناء على الملك والدنيا.
    إذاً: لا يستحق أحد أن يكون الذي بينك وبينه عامراً، ولو خرب ما بينك وبين العالمين، وأن تراقب وتراعي رضاه، ومحبته، ورغبته إلا الله عز وجل فقط، أما ما عداه فلا، ولو دققت النظر في هذا الكلام، فإنما يقال على سبيل المبالغة التي لا تصل إلى درجة الحقيقة، لكن بالنسبة لله عز وجل يمكن أن يكون وأن يوجد على الحقيقة.